من لم يأت بركن الإقرار باللسان أو الإقرار بالقلب، فهو كافر، ولا يحكم له بالإيمان، وقد ذكرنا بعض الأمثلة على من لم يأت بالإقرار باللسان.
وهناك من أقروا باللسان، وليسوا بمؤمنين عند الله سبحانه وتعالى؛ كالمنافقين الذين حكى الله عنهم الإقرار بألسنتهم في قوله تعالى: ((
قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))[المنافقون:1] وقال في آخر سورة التوبة التي فضحتهم وزلزلتهم: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))[التوبة:119] هذا بعد أن ذكر أنواع النفاق: ومنهم، ومنهم، ومنهم، ثم ذكر أنواع المؤمنين وأصنافهم، والسابقين الأولين، وذكر الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وذكر المرجين لأمر الله، وذكر الذين خُلِّفوا، فخاطب الجميع كلهم بخطاب: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))[التوبة:119]، ولذلك اشترط لتوبة المنافق الذي يقول (لا إله إلا الله) الصدق والإخلاص، بمعنى أن يتوب من النفاق، وأن يصدق ويخلص دينه لله: ((
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ))[النساء:146] إذاً: لابد من الصدق والإخلاص.
أما الكرامية أتباع محمد بن كرام، فإنهم يزعمون أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، مستدلين على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أحكام الإسلام الظاهرة لكل من أقر وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بلسانه وكف عنهم وعدهم مؤمنين.
وهذا الذي قالوه من أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من الناس الإقرار باللسان صحيح، لكن ما استنتجوه من ذلك غلط فاحش؛ فقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى أحكام الإسلام على كل من أظهر الشهادتين بلسانه هو حق، لكن هذا ليس دليلاً على أنه حكم لهم بالإيمان باطناً وحقيقة، فهناك فرق بينهما.
فنقول: ماذا تريد يـابن كرام ؟
إن كنت تقصد بالإيمان الإيمان الحقيقي الذي ينجو به صاحبه من النار ويستحق به دخول الجنة، إما ابتداءً كمن سلم من الكبائر، أو بعد دخول النار لمن شاء الله تبارك وتعالى له أن يعذب بها، لكنه في العموم يستحق الجنة، إن كان هذا الإيمان هو قصدك، فهذا لا يكون بمجرد الإقرار باللسان، وإن كنت تقصد مجرد إجراء الأحكام الظاهرة، فنعم، لكن كلامنا هو في الإيمان على الحقيقة، وليس في الإيمان الظاهر وإجراء الأحكام.
فالمنافقون لم ينفعهم الإقرار باللسان؛ لأنهم لم يكونوا مصدقين بقلوبهم مخلصين في ذلك القول لله سبحانه وتعالى؛ فإن الصدق شرط أساسي من شروط شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فلابد أن يقولها صادقاً من قلبه، وكذلك الإخلاص؛ فلابد أن يقولها خالصاً من قلبه، أما إذا قالها الإنسان كما قالها فرعون حين أدركه الغرق: ((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ))[يونس:90] فلو قالها في مثل هذه الحالة، لم ينفعه الإيمان، وهذه مسألة أخرى، وهي انتهاء وقت التكليف وخروج وقت الاختيار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} وتوبة البشر جميعاً لها حد تنتهي إليه كما أن توبة الفرد تنتهي بالغرغرة.
فالإنسانية كلها باب التوبة مفتوح لها إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وأما الفرد في ذاته فمدة عمره إلى أن يغرغر، هي وقت مسموح فيه بالتوبة، فإذا رأى الهلاك فلا توبة له حينئذ؛ قال تعالى: ((فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا))[غافر:85].
أبعد أن رأى البأس قال: آمنت؟! آلآن؟! فهل هذا إيمان بالغيب؟! إن هذا الإقرار في هذه الحالة ليس إيماناً بالغيب، وإنما هو إيمان بالمحسوس المشاهد.
فإذا رأى العبد ملائكة العذاب يأتون لنزع روحه، فقال: أسلمت وعلمت أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، لم ينفعه ذلك؛ لأنه الآن لم يؤمن بالغيب؛ بل آمن بشيء مشاهد مرئي، وكلمة (الإيمان) شرعاً معناها: التصديق بالشيء على الغيب، أما ما يراه الإنسان أمامه، فهذا لا يحتاج إلى أن يقال له: آمن به، كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن ابن عربي وقد كان يظن أنه هو الله -تعالى الله عن ذلك- وأن الله حل فيه، فلما حضرته الوفاة قال:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمناً واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وهذا آخر ما قاله ثم مات، كان يعتقد أنه الله، أو أن الله حل فيـه، فلما رأى ملائكة العذاب -نسأل الله العفو والعافية- أيقن أنه كان في غرور وفي أضغاث أحلام.
فلا ينفع العبد إيمانه أو إقراره حال الاحتضار بعد معاينة اليقين؛ فهذا فرعون لما غرق، وجاءته ملائكة العذاب، قال: ((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ))[يونس:90] فما ينفعك الآن يا فرعون أن تكون من المسلمين: ((آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ))[يونس:91] هذا استفهام استنكاري بمعنى: ليس هذا وقت الإيمان، إنما وقته من قبل ذلك؛ حين رأيت البينات، أما الآن فقد رأيت العذاب نفسه.
أولم تر البينات؟! أولم يرك الله سبحانه وتعالى آيات عظيمة عجيبة على يد موسى عليه السلام؟
لقد أراك الله آيات جعلت السحرة ينقلبون في لحظة من قولهم: ((بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ))[الشعراء:44] ومن إقسامهم بعزة فرعون، إلى قولهم: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا))[طه:72] في لحظة كفروا بفرعون ولم يعودوا يحلفون به ولا بعزته، وإنما آمنوا بالله وأقسموا بالله سبحانه وتعالى: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا))[طه:72].
فهذان الركنان -الإقرار باللسان والإذعان بالقلب- متلازمان، فمن جاء بالإقرار بالقلب وحده لا يُعد مؤمناً، ومن جاء بالإقرار باللسان وحده لا يعد مؤمناً، هذا في الحقيقة لا في إجراء الأحكام الظاهرة على من جاء بالإيمان بالقلب وحده، فنحن لا نعلم ولا نرى ما في القلوب، لكن نقول: إذا قالها باللسانُ؛ فإنه يلزم بالأحكام، فإذا امتنع عن الصلاة مثلاً، فهو مرتد وتارك لدينه ومفارق للجماعة.